Global Africa Nº 2, 2022
© Université Gaston Berger, Saint-Louis, Sénégal
DOI : https://doi.org/10.57832/spp8-nk96
معارف أفريقية في مواجهة الجائحة
لم يترك الكوفيد-19 خيارا آخر لهيئة التحرير غير تبجيله على مواضيع أخرى كانت قد برمجتها ووجدت نفسها مكرهة على تأجيلها إلى أعداد لاحقة كما هو الحال في كل القطاعات الأخرى [ الصحيّة والاقتصاديّة وغيرها] حيث فرض الكوفيد 19 نفسه مشغلا أساسيّا للفاعلين فيها.
يثير الكوفيد 19 إشكالات متعدّدة مثل التعايش بين البشر والحيوان والمحيط الطبيعي والاضمحلال المذهل للأشياء والكائنات بسبب العولمة والخلل الذي أصاب حوكمة الصحّة العامة في العالم وأنظمة الصحّة وكذلك نتيجة لعدم المساواة بين الأجناس والأعراق وبين الطبقات الاجتماعيّة في التمتّع بالمعالجة والمداواة وكذلك لعدم المساواة في الأبنية التحتيّة للبحث العلمي إلى غير ذلك من مظاهر الحيف وانعدام النصفة.
لم تلفت هذه القضايا وحدها الانتباه وإنّما كذلك الوقع الهائل الذي أحدثته الجائحة وما ترتب عنها من تأثيرات متعدّدة الأبعاد جعلت من الأهمّية بمكان أن نبحث في تواضع بعد آخرين سبقونا إلى ذلك عن فهم ما حدث في العالم وفي القارة الأفريقيّة منذ شهر ديسمبر ( كانون الأوّل) 2019.
كان من الضروري إذن أن ننزّل تساؤلاتنا في سياق زمني، أي في امتداد تاريخ الطويل من الجوائح، بادئا ذي بدء لأنّ هذه الجائحة ليست الأولى ولا الأخيرة. ففي كلّ خمس سنوات كما يُقال تظهر جائحة جديدة، لاسيما الأمراض حيوانيّة المنشأ . إذا ثبت هذا التوقّع – وهذا ما حدث بين 1976-2019- فحينئذ وبسبب الصدمة التي أوقعها كوفيد-19 في النفوس، فأنْ نحيا يعني [ أنّه لا مفرّ لنا ] من التعامل عن وعي وبصفة دائمة مع الفيروسات وأنْ نحكم فهذا يتطلّب أكثر فأكثر أن نأخذ بعين الاعتبار التهديد الذي تمثّله آثار الجوائح وانعكاساته على حياتنا.
فالأفارقة من هذه الناحية يواجهون تحدّيا هائلا عليهم رفعه وتتُاح لهما فرصة عظيمة ينبغي عليهم انتهازها. يتعلّق الأمر بمجتمعات تتميّز باقتصاد وإدارة لا يخضعان لمعايير ثابتة وتُعرف بهشاشة أنظمتها الصحّيّة وبنظام حماية اجتماعيّة غير متطوّر وهي سمات هيكليّة تميّز هذه المجتمعات. ينبغي إذن التعلّم والاستفادة أكثر ما يمكن من جائحة كوفيد-19 لبلورة حوكمة استباقيّة وإصلاحيّة. تتطلّب مواجهة القضايا المستعجلة الصحيّة منها والاجتماعيّة والبيئية وغيرها فهم طبيعة « ما يحدث» والذي هو موضوع تساؤل وبحث كما تتطلّب التصدّي للقضايا الأساسيّة التي تجعلها ممكنة الحدوث لاستباق البحث عن حلول لها وكذلك الابتكار علميّا واجتماعيّا للردّ عليها وفي كلّ هذا لا ينبغي أبدا إهمال تاريخ الجوائح الذي ينبغي على هذه المجتمعات أن تستخلص منه العبر والدروس أفضل ممّا كان عليه الحال مع الكوفيد-19.
فهذا» العقل» الصحّي الذي نحن بصدد تعريفه وهو المتهالك قطاعيّا يمكن أن يكون قاعدة تتأسّس عليها عقود اجتماعيّة جديدة القارة الأفريقيّة في أمسّ الحاجة إليها. فمن وجهة النظر هذه نوجّه دعوة إلى كلّ الفاعلين الأفارقة في شتّى المجالات إلى العمل على أن ينطبق على الكوفيد 19 المثل القائل» رٌبّ ضارة نافعة»، أي ينبغي أن يكون هذا الوباء أكثر من أيّ وقت مضى دافعا إلي الإحساس بضرورة أن تعمل البلدان الأفريقيّة والمنظمات الأفريقيّة على بلورة سياسات في البحث العلمي مموّلة من الأفارقة ولصالح الأفارقة وإنجازها على أرض الواقع تكون مستندة بدورها على سياسات في التكوين والتأهيل بغرض ضمان خلق خبرات جديدة قادرة على تغيير ما هو عليه الأمر الآن من الناحية العلميّة النظريّة وعلى مستوى الممارسات العمليّة التطبيقيّة على حدّ السواء.
لقد أبانت الجائحة أنّ الخيار الوحيد الملائم والقابل للاستمرار وله فائدة جمّة يتمثّل في جعل البحث العلمي القطب الذي يدور عليه كلّ تحوّل نحو الأفضل في سائر القطاعات حتى نضمن خلق معارف في ذات الوقت جديدة ومفيدة في سياق أفريقي وعالميّ.
أمّا الجدوى من ذلك فهي تكمن في قدرة المعارف والتجارب الأفريقيّة الهائلة على التغيير نحو الأفضل بالنسبة إلى القارة الأفريقيّة ذاتها وللعالم بأسْره. إنّ أفريقيا - وبلدان الجنوب بصفة أوسع وأشمل- لها فيما يتعلّق بالأوبئة دون شك الأفضليّة من حيث الخبرة والتجربة مقارنة بقارات أخرى [ الأوروبية على وجه الخصوص]
وفي الحقيقة فإنّ القارة الأفريقيّة «تجابه سنويّا أكثر من مائة وباء» كما يشير إلى ذلك المدير العام المساعد للمنظمة العالميّة للصحّة. فهذا الظرف المخصوص الذي تمرّ به القارة قد ساعد على إنتاج معارف ميدانيّة دقيقة بالأمراض وتوفير الردود المناسبة عليها:» فالقارة الأفريقيّة قد أبدعت أنماطا عمليّة فعّالة لمجابهة الأوبئة. والأفارقة بإمكانهم أن يعلّموا غيرهم في القارات الأخرى استراتيجيات ومخطّطات وممارسات عمليّة مبتكرة في الكيفية التي ينبغي الاستعداد بها لمجابهة الأوبئة كما أنّه بإمكانهم تعليمهم الآليات التي تمكّن جماعات بشريّة من المقاومة والتكيّف مع الظروف وهي تواجه أوضاعا شائكة ومعقّدة.
هذه المعارف المهمّة التي تتعلّق بعلم الاوبئة وكذلك بالصيدلة والنمذجة والإحصاء الحيوي والتاريخ والاقتصاد وعلم السياسة والانتروبولوجيا الاجتماعيّة ينبغي أن تُنشر وتُبرز أهمّيتها أكثر فأكثر من خلال وسائل متعدّدة مثل المجلّات المختصّة والتكوين عبر الانترنات المتاح للجميع (Massive Open Online Course – MOOCs) والكتب والافلام الوثائقيّة ومقالات الرأي الافتتاحيّة في الصحف (op-eds) . وهي معارف ينبغي أن تمكّن على المستوى العالمي من معرفة أفضل بالأوبئة وعلى المستوى المحلّي من اتخاذ قرارات أكثر وضوحا لمجابتها كما تمكّن من تجديد الدروس المستخلصة من ذلك ومعرفة أفضل وأشمل بالمجتمعات والمؤسّسات.
وعلى سبيل المثال فإنّه من الضروري بعث مجلّة للصحّة العموميّة تعنى ببلدان غرب أفريقيا هي في طور التشكّل منذ سنوات. وبهذه الطريقة يمكننا دون شكّ الانتصار على هذا الفيروس الذي مازال منتشرا بكثرة متحديّا كلّ من يؤمن بقدرات أفريقيا ولا يرى فيها غير الجمود والتبعيّة والعجز وكأنّه قدر مسلّط عليها لا يمكن مقاومته.
وعلى هذا النحو إذَنْ رغبت مجلّة «غلوبال أفركا» في أن تبدأ بتوثيق الطرق الأفريقية التي تمّ توخّيها في إدارة الجائحة والتعامل معها في سياقات [ بلدان أفريقيّة] متعدّدة وذلك بُغية التعرّف انطلاقا من تجربة الكوفيد وبصفة أشمل انطلاقا من الصراع مع الأوبئة على هو متاح لنا من المعارف الجديدة والطرق والمفاهيم القادرة على مساعدتنا على رفع التحدّيات المخصوصة التي أبانتها الجائحة وكشفت عنها.
هذا هو مطمح هذا العدد الخاص من «غلوبال أفركا» الذي تمّ إعداده بتنسيق من نعومي توسينيون (Noémi Tousignant) وفريدريك لو مرسيس (Frédéric Le Marcis) وجوزيان تانتشو (Josiane Tantchou). لقد راهنت هيئة التحرير ونجحت في خلق تعايش بين الكتّاب الشبان وصنّاع القرار في مجال الصحّة العالميّة وفي الملاءمة بين الدراسات متعدّدة الاختصاصات ودراسات حالات بعينها تتطلّب منهجا ومقاربة خاصة بها مع العمل على الأخذ بعين الاعتبار تاريخ الطبّ الاستعماري و إيلاء أهمّية للأوبئة الأخرى ( برامج مواجهة الملاريا ومجابهة فيروس إبولا)
ولا يسعنا هنا إلّا أن نتوجّه بالشكر الجزيل لهؤلاء ولكلّ الذين تولّوا مهمّة تحكيم المقالات التي وصلتنا وقبلوا عن طيب خاطر بأن يرافقوا بالنصح والإرشاد الكتّاب ، لا سيما الشبّان منهم في مختلف صيغها وترجماتها من لغة إلى أخرى.
هيئة التحرير